شخصيتك تصنع واقعك

علاقات في بيئة العمل لا تختلف كثيرًا في أهميتها عن غيرها من العلاقات الإنسانية، بل قد تكون من أكثرها تأثيرًا على حياة الإنسان المعاصر؛
حيث يقضي البعض أكثر من نصف يومه في تفاعلات مستمرة مع الزملاء والرؤساء والمرؤوسين في العمل.

تلك التفاعلات لها تبعات على حياة ذلك الإنسان خارج بيئة العمل؛ إن سلبًا أو إيجابًا. فعلى قدر ما تُحدثه من رضا وانسجام أو ضغط وتوتر وإجهاد عقلي ونفسي تكمن قوة التأثير واتجاهه.

فما بين علاقة أخلاقية قائمة على الثقة المتبادلة والاحترام والتقدير وعلاقة متوترة تعتمد على قوة السلطة والمنافسة، وإثبات الذات على حساب الآخر يكمن الأثر والتأثير.

فقد أثبتت الكثير من الدراسات أن للعلاقات الجيدة داخل بيئة العمل تأثيرًا عاليًا على الإنجاز والإبداع وجودة الإنتاج في العمل، ناهيك عن تأثيرها على الحياة الصحية والاجتماعية للفرد وما يتبعه من تأثير على المجتمع.

فعلى الرغم من أن المؤسسات والمنظمات تُولِي هذا الجانب أهميةً، وتُعطيه أولوية في رؤيتها واستراتيجياتها وبرامج التدريب للموارد البشرية لديها؛ إلا أن تطبيق ما تم تعلُّمه قد يطيش مع ظهور أدنى تحدٍّ يظهر في الطريق؛ حيث تطغى الشخصية الحقيقية على السلوكيات المفترضة في مثل هذه المواقف.

وهنا يظهر تساؤل حول قيمة تلك الدورات والبرامج، وأثرها على الواقع في بيئة العمل.. وكيف يمكن أن تتحول تلك المعرفة وذلك التدريب إلى سلوك لاواعي وثقافة ملموسة في التفاعلات اليومية في تلك العلاقات المهمة؟

وفق نموذج جريفز ”الديناميكيات اللولبية“ للوعي الإنساني بمستوياته الثمانية ذات الألوان المختلفة التي تبدأ من اللون البيج، ثم البنفسجي، صعودًا إلى الأحمر، ثم الأزرق فالبرتقالي، ثم الأخضر والأصفر، وانتهاءً بالفيروزي.

فما بين المستوى الأدنى وعيًا فيها متمثلاً في البيج والأرجواني؛ حيث يسود وعي الندرة والصراع من أجل البقاء والقبيلة، والمستوى الأعلى ممثلاً بالأخضر والأصفر والفيروزي؛ حيث القِيَم الاجتماعية العليا كالعدالة والتمكين ووعي الوفرة، ودعم الحياة الكلي؛ نجد مستوى وعي أغلب بيئات العمل غير المتوازنة يقع ضمن المستويات الوسطى ذات الألوان الثلاثة؛ الأحمر والأزرق والبرتقالي؛ حيث تقوم قوة المنظمة في المستوى الأحمر على رئيس في القمة يمارس سلطته باستمرار، ويقود من خلال الخوف.

في حين ترتكز السلطة في الوعي الأزرق على التسلسل الهرمي الجامد الذي يعتمد على الصرامة في تطبيق النظام، ولا يهتم بتنمية الأفراد في المنظمة.

أما في الوعي البرتقالي فتحل الفاعلية محل الأخلاق؛ حيث تعمل المؤسسات كآلات والموظفين هم تروس الماكينة، والقيمة المحرّكة هي الإنجاز.

يساعدنا هذا النموذج على فهم مستوى الوعي الذي تقوم عليه المنظمات والأفراد والتنبؤ بالمشكلات التي قد تحدث من خلاله، سواء على مستوى الفرد أو المنظمة، كما أنه يُمكنّا من علاج المشكلات من جذورها، وإيجاد حلول مستدامة لها تَضمن التطور والتغيير الصحي لبيئة العمل والعلاقات بين أفرادها.

فمشكلات العلاقات في العمل تنشأ كغيرها من المشكلات من العقلية التي تعيش في مرحلة وعي ومستوى تفكير محدود القيم والأطر، كما صنَّفها جريفز في نموذجه. تلك العقلية لا يمكن تغييرها من خلال تعلم مجموعة من أساليب التواصل والتأثير، ولكنها بحاجة إلى تفكيك للمفاهيم والقيم التي أنشأتها وإعادة بنائها بوعي جديد أعلى.

فكما أن لكل فعل ردة فعل، فكذلك المشكلات وحلولها.
فلا يمكن أن نتوقع أن تُحلّ المشكلات بنفس مستوى التفكير الذي أنشأها.